إعادة قراءة لنشأة العلم وأصوله عند أبي يعرب المرزوقي
مقدمة: عزف أبويعرب المرزوقي في كتابه "الابستمولوجيا البديل: فقه العلم ومراسه" على وتر حساس حاول من خلاله تجاوز الأطروحة العرقية في نشأة العلم النظري الذي تقصره الأسطورة غالبا إلى اليونان، إلا أن شيئا من المنطق البسيط يكفي لكشف زيفها، فكيف يمكن أن يبدأ العلم نظريا خالصا لولا مقدّمات سبقته في حضارات الشرق الأدنى حيث تاريخ العلم مغمور هناك، وبالقليل فإن لها الفضل يعود في اكتشاف أول الطريق إلى العلم النظري: الكتابة، في هذا العرض لأولى مباحث الكتاب– اعتمدنا طبعة الدار المتوسطية 2007- نستكشف بعض حقائق العلم في أولى خطوات الطريق إلى فقه العلم لاستئناف ممارسته الاستئناف الأصح.
1- هل يمكن حصر نشأة العلم النظري على اليونانيين؟
إذ اعتبرنا أن اكتشاف الفينيقيين للكتابة كان بمثابة طفرة أقحمت البشر في مرحلة جديدة من تاريخهم، فإن اكتشاف العلم النظري لا يقل أهمية عن اكتشاف الكتابة، وذلك لكونه فتح على البشر آفاقا لا حد لها لخدمة أهدافهم في استكشاف الكون وتسخيره، فإلى أين ترجع أصول العلم النظري بوصفه الشكل الأرقى للمعرفة، بعد أن كان العلم الإنساني لا يتجاوز المعرفة القائمة على الحس؟ نضيف هنا بأن المقصود بالعلم النظري هو ما يقابل العلم الحسي، ذلك أن الأول غير مباشر مصدره العقل والثاني مباشر ومصدره الحواس، وأن العلم النظري تطورٌ منح الإنسان أفضلية في التعامل مع الطبيعة عامة وأتاح له التحكم فيها، وأن الثاني سطحي وبسيط وبدائي، لذلك كان السؤال هنا عن من كان له الفضل في تأسيس العلم النظري الذي يعتبر أساسا لكل التقدّم الحضاري (العلمي والتقني) الذي تعرفه البشرية إلى غاية اللحظة الراهنة. إن نسبة نشأة العلم النظري (في شكله الإقليدي) إلى اليونان يقتضي تمحيص بعدين متلازمين هما البعد الظرفي، التاريخي الجغرافي، والبعد غير الظرفي، المعرفي والمفاهيمي، وأن تمحيص البعد الظرفي من الأهمية بمكان في إعادة استكشاف مصدر العلم الإقليدي وإحالته إلى أصوله الصحيحة من أجل تجاوز الرؤية الحَدية التي تنسب العلم إلى قوم بعينهم، وهم هنا اليونان. والقول بأن الرياضيات المصرية اقتصرت على طابع تجريبي حسي لإثبات الزعم بأن الرياضيات اليونانية بوصفها أول العلوم النظرية يبدوا حكما متسرعا رغم ما قد يؤيده من شواهد، إذ الغاية هنا ليست نفي ذلك كحقيقة حاصلة وإنما مناقشة الضرر الذي قد يحصل من جراء حصر نشأة العلم النظري في اليونان واتخاذ المصريين مطية لتأكيد ذلك الحصر؛ أوليس بالإمكان إضافة مصدر ثالث له، حضارة ما بين النهرين مثلا؟ هذا الذي يدفع بأبي يعرب للتساؤل: ألم يكن بوسع المؤرخين التفكير في مصدر أممي؟ فالحقيقة أن الإمبراطوريات المتوالية على سيادة الشرق الأدنى (المسمى اليوم بالشرق الأوسط) لم تكن قومية وإنما أممية، حتى وإن كانت تحت سيطرة أحد الأقوام، إذ الغالب على تلك المنطقة، خاصة بلاد الرافدين كانت مزيجا من الأجناس، انعدم فيها الانفصال بشكل مطلق. ومن ثم كان رفض حصر نشأة العلم النظري في القومية اليونانية، وكذا القول بأن بلاد ما بين النهرين (هي نفسها بلاد الرافدين أو المنطقة المسماة بالأجنبي ميزوبوتاميا) كانت خليطا من الأجناس، تمهيد صريح للبرهان على أممية أصل العلم النظري ونفي نسبته إلى قوم بعينه. يتساءل أبويعرب متعجبا، كيف يعقل أن يكون طالس أول الرياضيين اليونان ويكون مع ذلك قد مارس الرياضيات بشكل نظري صرف؟! كيف يمكن أن تكون الرياضيات اليونانية علمية-نظرية منذ البداية لولا أنها استندت إلى ما قبلها؟ إنها سخافة تماثل السخافة التي تنسب الثورة الفلكية في العلم الحديث إلى زمان ومكان مفرد (بل إلى شخص أو إثنين كوبيرنيك وغاليلي) وتصور حدوثها دفعة واحدة! فإذا كان تصور الانتقال من الممارسة إلى العلم بسرعة مذهلة ممكنا في عصرنا الراهن، إلا أنه كان متعذرا في العصر اليوناني لعلتين: الأولى: قلة المشتغلين بالعلم وإنتاج المعرفة بسبب عدم انتشار التعليم وأدوات المعرفة البدائية. الثانية: بطء انتقال المعلومة وتداولها ورداءة التوثيق وندرة المراكز الحضارية المتحاورة. ولما كانت العودة إلى الوثائق المتوفرة غير كافية لتأسيس جواب شاف عن الإشكال، وذلك إما لتعدد التأويل، أو لعدم وثوقيتها وصحتها فإن المجال سيكون مفتوحا للتأويلات غير النزيهة والمتسرعة حول أصل العلم النظري ومصادره التاريخية الجغرافية فتنحطّ إلى مجرد تبريرات لمزاعم مذهبية أساسها المقابلة بين الثقافات والأعراق بما يؤدي إلى تزييف العلم وتشويه تاريخه. بهذا المنحى يصبح تشويه تاريخ العلم بحصر نسبته إلى اليونان مماثلا لتشويه تاريخ الدين بحصر نسبته إلى اليهود، بوصف التشويهين ظاهرتين مرضيتين أفسدتا التاريخ الروحي والفكري للبشرية، وذروة التشويه الحاصل لتاريخ العلم ما أورده هيث في تاريخه للرياضيات، إذ ومن رغم اعترافه، على لسان أرسطو، بأن الشكل العلمي الأول للرياضيات إنما يعود مصدره إلى المصرييين ، إلا أن مرجع ذلك ليس إلى الحاجة العملية بل إلى مجرد وجود طبقة متفرغة تقضي وقتها في هكذا أمور، في إحالةٍ إلى أن السبق المصري لم يكن من قدرات ذاتية في الإنسان المصري بل إلى مجرد ظرف خارجي، وفي ذلك عين التأويل الأيديولوجي المفسر لتاريخ العلم لأغراض ذروتها التحيز ومبدؤها عقدة التفوق العرقي.
2- النظرية والتطبيق في العلم: وقائع ترمّز ورموز تتوقّع
- في أن نسبة النهضة العلمية إلى القرن 17م إقصاء لعشرين قرن من التأسيس العلمي الحقيقي.
يمكن أن نستكشف و من خلال بعض النصوص أن تأويل تاريخ العلم من منطلق "المركزية الغربية" هو أمر محدث تمخض عن النزعة العرقية التي تبلورت خلال عصر النهضة الأوروبية، وذلك استنادا إلى "حقيقة واهية" مفادها أن الرياضيات المصرية قامت فقط على مجرد حس تجريبي خال من العمق النظري، فقد ركز هيث في تأريخه للرياضيات المصرية على بداياتها فقط دون النهايات النظرية التي سبق انتقالها إلى اليونان. واستنادا إلى العلاقة بين الجانبين النظري والعملي في العلم، فإنه من الخطأ اعتبار العملي ماضي النظري، لكن تاريخ العلم الموضوعي يقرر بأن لكل مرحلة من المراحل العلمية بعدين فني متعلق بـ (منظومة الأدوات والحركات) وقولي متعلق بـ (منظومة القضايا والروابط)، فلا يمكن لأي منهما أن يتجاوز الآخر، إذ هما متضايفان بإطلاق، لكل ممارسة نظريتها ولكل نظرية ممارستها، لذلك كان الإشكال متمثلا في إمكان وجود تطبيق وتنظير غير علميين، بما يفرض علينا التمييز بين تطبيق ونظرية علميين وتطبيق ونظرية غير علميين؟ إن علمية النظرية تقاس بقابليتها للتطبيق وعلمية التطبيق تقاس بقابليتها للتنظير، فكان الحل الذي يقترحه أبويعرب للإشكال متمثلا في نزوع كل من النظرية والتطبيق إلى بعضهما البعض، بمعنى أن تتجه النظرية إلى ترميز الوقائع، وأن يتجه التطبيق إلى توقيع الرموز، وما ينتج عن ذلك هو مايلي: 1- أن يكون للتنظير بعدين: أ- التخمين أو الفرضيات التي تقترب بفعل محك الوقائع إلى التطبيق فهو يبتعد عن أن يكون مجرد تخمين، ب- ابتعاده عن مرتكزات الوقائع بالتنظير، فهو يبتعد عن أن يكون حسي مجرد. 2- أن يكون للتطبيق بعدين: أ- اشتقاقه من نتائج التنظير. ب- نزوعه نحو الوقائع بوصفه تنميطا عقليا للوقائع. فالتنظير هو نتائج تترمز والتطبيق هو رموز تتوقع وذلك جوهر العلم بوصفه سيرورة ذات اتجاهين، وأما نتائجه فتتمثل في المطابقة بين الرموز والوقائع، "أي إنه اللغة التي قُدّت على الوقائع، والوقائع التي قُدّت على اللغة"، أو هو الجمع بين المنطق والتقنية أي رياضيات في جوهره. الرموز التي لا وقائع لها هي أيديولوجيا (أو العقيدة)، أما الوقائع التي لا رموز لها فهي تكنولوجيا (أو الآلية)، ومن ثم كان التطبيق غير العلمي هو الذي لا يستند إلى النظرية، والنظرية غير العلمية هي التي لا تستند إلى تطبيق، والأول هو التقنية العفوية والثانية هي الأساطير العفوية، والعفوية هنا بمعنى التجرد من "التعليم بالوثائق"، أو هو "المحاكاة الفعلية والكلام الشفهي"، وما أن توجد الوثائق المكتوبة يصبع العلم ممكنا، وذلك ما حصل في مصر وبابل وفينيقيا. لذلك، فالاكتفاء بالحجة القائلة باقتصار الرياضيات المصرية على الجانب العملي لا يمكن عدها إثباتا للانظريتها مادام مجرد التوثيق يمكن أن يكون برهانا على حضور النظرية بالقوة في الرياضيات المصرية، وحتى التسليم ببداية المصريين بالجانب العملي من الرياضيات لايعني عدم إمكان تطورها للنظرية في نهايتها، فضلا، هذا كله فضلا عن تأكيد أرسطو بأن التفرغ العلمي لرجال الدين بعد سدهم حاجاتهم الأولية كان واقعا حاصلا بالفعل في الحضارة المصرية. لقد اعتمد هيث في إثبات لانظرية الرياضيات المصرية على وثائق تتصف بمايلي: 1- أنها غير أصلية وهي نسخ لما كان قد تقدم عليها من ممارسات أووثائق. 2- أنها عمل تطبيقي (مجموعة تمارين) وليس كتابا نظريا. رغم مستواها الرفيع. 3- هي وثائق يمكن أن يكتشف ما أكثر منها نزوعا للنظرية. والنتيجة أن تطبيقية الوثائق المصرية لا ينفي احتواءها على نسق للمسائل وحلولها يكتسي طابعا نظريا متقدما لا ينفيه إلا معاند، وما يؤكد ذلك حقيقتان ذات دلالة عظمى هما: 1- كل الرياضيين اليونان قضوا فترة تكوين في مصر قبل انضمامها إلى اليونان بعد الغزو المقدوني. 2- نشأة المدارس اليونانية كانت كلها بعد فتوح الاسكندر المقدوني، وكانت مدرسة الاسكندرية أسماها. والمحصلة هي أن منارة العلم في العهد الهلنستي هي الاسكندرية بدون منازع (الهلنستية هي حقبة مابعد وفاة الاسكندر المقدوني حيث حصل التلاقح بين الحضارات الشرقية والحضارة اليونانية تمتد من أوائل القرن الرابع ق/م إلى غاية القرن الخامس الميلادي، ويحصل التمييز بين العهدين الهلنستي والهليني، ذلك أن العهد الهليني هو عهد ما قبل غزو الاسكندر المقدوني لمصر). ويعتبر المرزوقي أن "سوء حظ" تسبب فيه متعصبون دينيون قضوا على مكتبة الاسكندرية الهلنستية، وأنه لولا سوء الحظ ذاك لكان تاريخ العلم على غير ما هو اليوم، ذلك أن إهمال دور العهد الهلنستي في ربطه الرياضيات بعلوم الطبيعة هو التأسيس الحقيقي للنهضة العلمية في ذلك العهد، فالنهضة العلمية هي هي، أي تلك التي حصلت في العهدين الهلنستي والإسلامي، وليست تلك التي تنسب إلى غاليلي، وأن حصر تاريخ العلم في لحظة القرن السابع عشر يقصي عشرين قرنا (من القرن 3 ق/م إلى القرن 17 م) الجهود العلمية الحقيقية التي حصلت في العهدين الهلنستي والإسلامي، لما قدموه من ترييض للظاهرات الطبيعية والحيوية والإنسانية.
3- اختزال تاريخ العلم، أو في تقديم التاريخي الجغرافي على الوجودي المعرفي.
إن ما تقدّم من اعتراض على حصر أصل العلم النظري على اليونان لا يهدف إلى حصره عكسيا في جماعة عرقية أخرى بقدر ما يسعى إلى "تصحيح التصور" عن مسألة الشروط الموضوعية التي أنشأت القول العلمي، وذلك انطلاقا من تخليصها من العنف الرمزي القائم على مذهبية واهية وتناول خاوٍ لا يهدي إلى فهم صحيح بما في ذلك فهم المساهمة اليونانية ذاتها في تطوير العلم. ومع ذلك فإن اليأس من "الأسطورة العرقية" أدّى بآخرين إلى اللجوء لتوزيع الأصول الإقليدية للرياضيات على القرون الثلاث الفاصلة بين فيثاغورس وإقليدس (بدايات الرياضيات اليونانية ونهاياتها)، وذلك حرصا على إثبات تطورها بين مرحلتين كلاهما يونانيتان، وهروبا من نسبة أصل الرياضيات النظرية إلى مصدر ما قبل يوناني. أما ذروة محاولات اختزال نشأة العلم النظري فسعت إلى تغييب جانبه الرئيس المتمثل في "الوجودي المعرفي" باتخاذه مجرد وسيلة يتم توظيفها لتبرير ما تم اختياره تحكميا الجانب الرئيس في بحث أصل نشأة العلم وهو "التاريخي الجغرافي" الذي حُصِر بين القرنين السادس والثالث الميلاديين، فما يؤدي إليه هذا الحصر هو إعاقة أية محاولة تسعى للبحث عن أصل العلم النظري عند المصريين أو بلاد مابين النهرين ما دام القول سائدا باستحالة حدوثه وبوصفه حقيقة مجمع عليها. إن من العوائق التصورية التي تحصر نشأة العلم عند اليونانيين هي المقولات التي تستدل على النشأة اليونانية للعلم بإفراد الحضارة اليونانية ببعض الخصائص المميزة لها من قبيل القول أن الشكل البرهاني والفرضي والاستنتاجي ناتج عن أخص خصائص العبقرية اليونانية المتمثلة الجدل والفلسفة. ذلك ما قال به أبراد زابور الذي "يلجأ إلى الخيار الأيلي لكون المنطقة متجهة إلى أوروبا في معناها الحديث وهي رمز قطيعة اليونان مع الشرق وبداية التوجه الغربي في الحضارة اليونانية" (ص38)، [لعل المقصود بالخيار الأيلي وجهان: الوجه الجغرافي كون اللفظ مشتق من إسم إيليا المدينة اليونانية المتاخمة للحدود الجنوبية لإيطاليا وذلك معنى الاتجاه نحو الغرب، والوجه المنهجي نسبة إلى زينون الأيلي في فلسفته التي قامت على مبدأ نفي الكثرة ونفي الحركة، وهي فلسفة نقيضة لفلسفة هراقليطس القائمة على مبدأ الصيرورة]، لكن كيف يعقل أن نربط بين المنهجين الرياضي والفلسفي بحصر الأخير في اليونان؟ ألم يخضع المنهج الجدلي كذلك إلى تطور يتجاوز العرق الواحد؟ كيف حصل تقدّم المنهج الجدلي على نفس منوال تقدّم المنهج الرياضي؟ أليس الربط بين المنهجين ربط بين خاصيتين عرضيتين؟ فلئن كان أبو يعرب قد أثبت –في مؤلف سابق هو (الرياضيات القديمة ونظرية العلم الفلسفية)- أن الجدل والمنطق يستندان إلى الرياضيات، فإنه يعتبر أن التنازل على ذلك والتسليم بأسبقية الجدل على الرياضيات سيؤدي إلى عدم إمكان الجدل ذاته، ذلك أنه قائم على نظرية البرهان والحد شكلا وكذا السعي إلى التعليل مضمونا، فكيف يمكن أن تسبق الفلسفةُ الرياضياتَ؟! فضلا عن ذلك فإن نمو المنهجيات والممارسات يكون غالبا بالتعميم، أي أن تعميم منهجية معينة يقتضي التَيَقُّن من فاعليتها الميدانية ومن ثم تعميمها بشكل تدريجي إلى أن تستنفذ إمكاناتها، وذلك عين الجدل، بحيث أن فساد المنهج يكون بالانفصال بين المضمون المتعيّن الدقيق والشكل المنطقي الكلي الذي يضمن صحة التصور، لذلك كان الجدل عند أرسطو مرتبطا بفساد المنهج البرهاني المستوحى من الرياضيات، إثباتا لأسبقية الرياضيات على الفلسفة.
4- تاريخ نشأة العلم من المقاربة العرقية إلى التصور الكوني.
إن إدراك الروابط الموجودة بين الشروط الظرفية والشروط البنيوية لظهور الشكل الأول من العلم يقتضي النظر في المصدر الوجودي المعرفي لا المصدر التاريخي الجغرافي، وذلك من أجل تجاوز المقاربة القومية العرقية والتعالي من أجل استكشاف الممارسات والمؤسسات التي تحدد شكل ومضمون العلم، ذلك الذي أشار إليه ابن خلدون بوصفه الممارسات غير المباشرة المتمثلة في فنون تنظيم البشر والفنون المنظِّمة للعلاقة مع الطبيعة، وممارسات مباشرة متمثلة في مؤسسات إنتاج المعرفة وفنون التسجيل والتوثيق. فإذا كانت مؤسسات إنتاج المعرفة تقوم بعملية التعليم والعرض البيداغوجي للمعرفة، بحيث يجعل من التنظير والمعرفة غير المباشرة تدخل في كل أصناف الفعل الإنساني وعلاقته بمحيطه الطبيعي والثقافي، فقد صار بيِّناً أنه لا أمة بمستطاعها تحقيق تلك الشروط بمفردها، حتى أنه يستحيل تصور إمكان ترميز الوجود (أي إمكان العلم) وتطور المعرفة دون تصور أن شروط العلم النظري تحققت ضمن عهود حضارية طويلة. هنا تأتي مركزية موضوع التعليم والعرض البيداغوجي للمعرفة بوصفه مسؤولا عن نقل المعارف ومن ثم ضمان استمرارها وتطورها، "ذلك أن التواصل التراكمي للمعرفة هو الذي يولد ضرورة تنظيم الرموز والوثائق ومن ثم تنظيم مضمونها المعرفي وتكوين المختصين في كل الحرف والصناعات، وخاصة في أسمى الاختصاصات لكونه اختصاص تكوين المختصين أعني التعليم" (ص39). بهذا يمكن القول بعلمية المعرفة، عندما تستقل ب"حركتها النظرية" فتنفصل كاختصاص، ومن ثم تتحول إلى حرفة يتم تعليمها، إذ حينها تفتك لنفسها مكانا ضمن نظام تقسيم العمل الاجتماعي فيتحقق التراكم المفضي إلى التنظير، بمعنى إمكان بناء منظومة نسقية من القول له نحوٌ وصرف ضمن إطار من التشاكل بين الوحدات الرمزية ونظيرتها الوقائعية. نضيف بأن الأمر يرد هنا على غرار اللغة لها قواعد نحوية رمزية ثابتة (الافعال وأزمنتها مثلا) يمكن التصرف فيها وفقا للوقائع (الجنس والعدد مثلا).
5- فصل الخطاب في علاقة النظرية العلمية بالواقع، أو في شروط تحصيل العلم السَّوِي.
لما كانت الحِرَف العملية أسبق في الوجود من نشأة التخصصات العلمية، لزم أن يخضع نظام العلم منهجيا ومنطقيا لضرورات النظام العملي ويصدر عنه، ذلك أن المعايير الضابطة التي ترفع العمل التجريبي إلى العلم النظري هي "المحرّك الفعلي" لتأسيس القول العلمي، وفي مرحلة تالية تأتي معايير ترتيب القضايا وتفريعها وتصنيفها التي هي نفسها مدلول النظرية العلمية. إذن فالقول العلمي يسبق النظرية العلمية ويؤسسها، إذ لا يمكن أن تتأسس النظرية دون بلوغ درجة القول العلمي الذي هو رفع الوجود الحسي إلى مرتبة الوجود الذهني من خلال عملية الترميز، فتصبح تلك الرموز حقائق ذهنية يمكن التصرف فيها من خلال اشتقاق القضايا بعضها من بعض. هكذا كلما أصبحت حرفة ما اختصاصا يُتعلم بالخطاب من أجل إنتاج مختصين في الحِرَف (وهي المرحلة الأول في تأسيس النظرية العلمية)، فإن اختصاصا ثانيا ينتج عنه هو العلم بتلك الحرفة من الناحية القولية، أي أن تتحول الحرفة إلى علم لا يخرج محترفين للحرفة وإنما يخرج محترفين في علم تلك الحرفة، وعندئذ تكون الحرفة قد حصّلت قدرة التفكير الذاتي (وهي المرحلة الثانية من تأسيس النظرية). الهندسة مثلا تمثل أول العلوم بوصفها تدوين لأشكال صادرة عن ظواهر ذات شكل مثل أشكال السماء التي تصبح بعد رفعها إلى الوجود الذهني علما بالفلك، ومن ثم كانت الهندسة "إعادة تشكيل" رمزية لأشكال حقيقية موجودة في الواقع، وإعادة التشكيل تلك تجعل من الهندسة محاكاة غير اعتباطية للوقائع، وذلك بعكس الفن الذي هو محاكاة اعتباطية للوقائع. فالعلم محاكاة دقيقة وحقيقة للعالم أخص سماته الرمزية أو الترميز وهو ما يجعله مشتركا مع الفن بوصفه فعلا ترميزي أيضا، إلا أن الأول مضبوط الرمز والثاني ذاتي لا معايير فيه، لذلك كانت الأدوات المستعملة في الهندسة من قبيل المسطرة والبركار وميزان البناء وجميع آلات الرصد الفلكية أدوات وسيطة وضابطة في ترميز حقائق الطبيعة. ومن ثم ومما تقدّم يحصل أنه حيثما وجدت الكتابة التي بها يتم تحويل حقائق الطبيعة إلى رموز بواسطة تدوين أشكال السماء والأرض (الهندسة) وحيثما وجدت صناعة الإحصاء والحساب (التسجيل) وجد العلم. والعلم في شكله الأول ليس إلا رياضياً، وقد فقد نقاءه بعد أفلاطون وأرسطو عندما أدخلوا إليه العنصر الروحي (الدين) الذي أفسد العلم والدين معا عندما تجرآ على الزعم بأن العلم هو أكثر من مجرد نسق من الخبرات المنتج منطقيا، فالاحتفاط بطهورية العلم وخلوه من الشوائب الدخيلة (الأيديولوجيا والتحكم الانطباعي) عليه يقتضي وصلا فاعلا بعلوم الرياضة التي ليست إلا المنظور العقلي علوم تنقية وتصفية. لا تكون النظرية علمية إلا إذا صارت الدرجة الأولى فيها خطابا مدوّنا (الكتابة) والدرجة الثانية خطابا قوليا (مشافهة) صادرا عن الخطاب المدوّن وترجمة له، فلا يكون مجرّد "وحي خاطر" يستلهم من اللحظة من غير قدرة على الوصل بين اللحظات ضمن نسق متكامل لا يمكن إلا بالتدوين المسجل والمكتوب، فالنظرية العلمية (في مرحلتها الثالثة والنهائية) تنطلق من منظومة تعليلية نظرية صرفة بعد إتمامها للمرحلتين التأسيسيتين وهي: التعليم بالخطاب، العلم بالخطاب، توظيف الخطاب العالِم للخطاب المتعلَّم. وهنا تنزاح وبشكل نهائي المقولات التلفيقية القائلة بالعقل المكوَّن والعقل المكوِّن، حيث التكوين متواشج مخلوط في إطار موحَّد ووحيد هو العقل ذاته وبناؤه العلمي المتدرج كما تقدّم، فلا تكون العلاقة بين العلم والواقع علاقة تقابلية يحيل أحدهما إلى الآخر، وإنما تسام عقلي ناتج عن ضوابط منهجية يخضع لها كل من أراد أن ينال العلم من أصوله، حتى تحصل المقارفة التامة بين العلم والواقع، فلا تحصل العودة إلى الواقع إلا بعد تمام النظرية العلمية فتغدو حينها جاهزة للاستهلاك، إلى أن تظهر الحاجة من جديد إلى التجديد.
خاتمة: فقه ممارسة العلم وفقه تاريخه متواشجان يستحيل تفكيكهما إلا على أنقاض العلم ذاته، ومن ثم كان استئناف القول العلمي إعادة استكشاف جذوره من جديد كما تقترح أطروحة أبي يعرب، وهي جذور ذو بعدين رئيسين هما الجذر التاريخي الذي ما يزال غامضا في الكثير من جوانبه خاصة ما قبل اليونانية، والأصل المفهوم المجرّد الذي لا يعرف شيئا إسمه الأداة والغاية في العلم إلا كتجليات ثانوية عنه، فإذا لم نعد النظر في تلك الجذور التأسيسية استحال الكلام عن استئناف القول العلمي جملة.